الاثنين، 1 يونيو 2009

النوبة فى عيون مسعد ابو فجر(ناشط مصرى )


النوبة
عدت أمس، شم النسيم، من رحلة إلى أسوان و ما خلف السد، بدأناها أنا ورفاقي من محطة قطارات رمسيس بعد ظهر الخميس.
كنت زرت أسوان و كوم أمبو منذ أعوام طويلة في رحلة سياحية نيلية، لكن هذه الزيارة كانت مختلفة.
كانت لدي صورة عقلية عما كانت عليه الحياة في النوبة القديمة...قبل السد. كنت دائما أطور هذه الصورة و أزيد من وضوحها و تفاصيلها، مضيفا إليها من شذرات الحقائق و الصور و قصاصات المعلومات التاريخية و المعارف الإناسية التي أكتسبها مع الوقت. بالنسبة لي كانت النوبة مكانا خياليا...يمكن أن يكون أي شيء.
هذه الزيارة أكسبت الصورة العقلية الخبرة العملية المباشرة بالناس - و إذا جاز لي أن أضيف - بالأرض.
ما أثار إعجابي و دهشتي هو كيف أن النوبيين، الأذكياء، الكادحون، الأعزاء، و الطيبون في الوقت ذاته ما زالوا يسعون حثيثين للعودة بأقرب ما يستطيعون لموطنهم الغارق.
لتتضح الرؤية أكثر، يجب أن نعرف أن أرض النوبة القديمة بكاملها يرقد الآن في قاع بحيرة السد العالي، التي ارتفع ماؤها مالئا وادي النيل حتى حافة سهلي الصحراوين الشرقية و الغربية، اللتان أصبحتا الآن تشكلان شطآن هذه البحيرة.

لهذا، فإن أي تجمعات سكنية جديدة تقام على سواحل بحيرة النوبة، بما فيها أبو سمبل، البلدة الجميلة، المخططة و المنشأة إنشاء، تقع كلها في الصحراء، على ما كان يبدو للنوبيين القدماء قمم الجبال تجاوزا المحيطة بأرضهم. أو مثلما قال عبد المجيد أبو شفة العمدة غير الرسمي في قسطل الجديدة.
لأكون أكثر دقة يجب أن أوضح أنني هنا أتكلم عن النوبيين الفدجيكا، اللذين كانت أرضهم تمتد من جنوب أسوان حتى وادي حلفا، التي تقع الآن في السودان التي فيها ثلث مساحة بحيرة النوبة.
على ما أعلم، فإن المجموعية الإثنية الأخرى من النوبيين في مصر، هم الكنوز، اللذين يتحدثون لغة أخرى، و اللذين أصبحوا جزءا من المشهد السكاني في وادي النيل في موجة هجرة ما قبل تاريخية مختلفة، لم يتأثروا كثيرا ببناء السد العالي، حيث أنهم يعيشون إلى الشمال منه أكثرهم.
في الوقت الذي كنت فيه هناك بصحبة أخي و صديقنا م كانت تُعرض مؤقتا صورا فوتوجرافية من نوبة ما قبل السد في المتحف النوبي في أسوان، منها
ما صوره الرحالة تشارلز برِستِد الذي زار هذه المنطقة في مطلع القرن العشرين، و التي ساهم بها المعهد الشرقي التابع لجامعة شيكاجو، ثم علمت أنه يوجد مقر دائم له في مصر باسم بيت شيكاجو في الأقصر.
عندما تطالع الصور، و بعد أن تبحر في البحيرة، ستدرك كيف كان كل شيء قريبا من النيل، محور حياة النوبيين. الوادي هناك لم يكن متسعا كما هو الحال في أماكن أخرى؛ القرى، المعابد، الحصون، الكنائس القديمة، المساجد، كلها على مسافات متقاربة و في حدود المشي قربا من النهر. مع هذا فالقرى منبسطة و غير مزدحمة كقرى الدلتا، و البيوت الفسيحة بطرازها المعماري الشهير لا ينافسها في الانتشار و الانتثار سوى بيوت البدو.
أمضيت أكثر من ساعتين أطالع أقل من ثلاثين صورة، كلها مؤرخة و موصوفة محتوياتها، بالرغم من أن اللوحات العربية كان مختصرا أكثر من اللائق و يفتقر إلى الكثير من المعلومات الهامة التي كانت في الإنجليزية! كنت بقيت أكثر لولا أنه كان علينا أن نلحق بالقطار.

أكثر لحظات الرحلة تأثيرا جاءت في العبارة في البحيرة، و نحن نبحر من أبو سمبل إلى الضفة الشرقية متجهين نحو قسطل و أدندان، عندما أشار صاحبنا و دليلنا محمد رمضان إلى قمة صخرة بيضاء ما زالت ناتئة فوق سطح الماء و قال: شايف الجبل الأبيض اللي هناك ده؟ لما كنّا أنا و والدي رحمه الله نعبر بجواره في العبارة كان يقرأ الفاتحة على أرواح أجداده المدفونين عند سفحه، دلوقت تحت المية.
هذه المقالة ترجمتها بتصرف في وقت لاحق على هذا التاريخ، عن رسالة كنت كتبتها بالإنجليزية بعد أن عدنا من الرحلة، لكني أضعها في هذا التاريخ لكي أحافظ على قوانين السببية الكونية